إعلان
إعلان

رحلة في سحر روبرتو باجيو.. حكاية ذيل الحصان الذهبي

Renato Maisani
15 سبتمبر 202504:24
Roberto Baggio Hall of FameGOAL

أيقونة داخل وخارج الملعب.. رمز وأحد أقوى لاعبي جيله، فالحديث عن روبرتو باجيو يمثل تحديًا بين الأجيال.

الحديث عن روبرتو باجيو، لمن لم يعاصره، هو بمثابة تحد بين الأجيال، لأنه محاولة لنقل إحساس يصعب التعبير عنه بالكلمات، لكننا سنحاول.

فباجيو كان، خاصة بالنسبة للإيطاليين، رمزًا وعاطفة وراية مرفوعة وأيقونة، لكنه قبل كل شيء، كان أيقونة فوق المستطيل الأخضر.

كان باجيو أولًا لاعب كرة قدم، واحدًا من أعظم نجوم حقبته، بل يراه كاتب هذه السطور، الأعظم في تاريخ المنتخب الإيطالي. 

ولم يرتبط أحد بقميص الأزوري كما ارتبط باجيو، وربما لن يتكرر ذلك أبدًا. فعندما تفكر في جيجي ريفا تتخيله بقميص كالياري، وعندما تفكر في باولو مالديني تراه بقميص ميلان، وعندما تفكر في بوفون تستحضره بقميص يوفنتوس. 

لكن عندما تفكر في باجيو، تراه فورًا بقميص المنتخب الإيطالي، ولا يهم إن كان الرقم 15 في مونديال إيطاليا 1990، أو الرقم 10 في أمريكا 1994، أو الرقم 18 في فرنسا 1998. في ذاكرة جيل التسعينيات، كان باجيو دائمًا يرتدي القميص الأزرق. قميص لم يكن مجرد زي المنتخب، بل رمزًا للأمة بأسرها.

ورغم صعوبة محاولة سرد مسيرة باجيو، يبقى التحدي قائمًا: فمَن عاشه يعرف كل شيء عنه، أما من لم يعايشه – بحكم العمر أو المكان – فهو يعترف بلا شك بأنه كان بطلًا استثنائيًا، لكنه يجد صعوبة في إدراك الهالة التي تحيط به، تلك التي ما زالت تبعث المشاعر حتى بعد أكثر من 20 عامًا على اعتزاله.

في إيطاليا، طوال التسعينيات، كان انتشار الأطفال والمراهقين وحتى الكبار بشعورهم المربوطة بـ "ذيل الحصان" انعكاسًا للعشق الكبير الذي ربط البلاد كلها بهذا اللاعب، الذي حاول بكل ما يملك أن يقود المنتخب نحو كأس العالم، واقترب جدًا، لكنه لم يحققها.

في زمن بدأت فيه كرة القدم، تتحول عامًا بعد عام إلى صناعة تجارية أكثر منها رياضة خالصة، ظل باجيو رمزًا للأصالة، ومرساة للمقاومة. باجيو كان وسيبقى إنسانًا قبل أن يكون لاعبًا، إنسانًا قادرًا على أن يُحب حتى من أجل خطأ ارتكبه.

Roberto Baggio Italy Brazil USA 94Getty Images

Roberto Baggio Italy USA 94Getty Images

ذلك الخطأ – ركلة الجزاء المريرة التي أهدرها في باسادينا – هو ما جعله إنسانًا بكل بساطة. خطأ لم يسامح نفسه عليه أبدًا، وربما لهذا السبب بالتحديد، أراد الجميع أن يسامحوه بسرعة، رغم خيبة الأمل، ورغم المرارة. 

كثير من الإيطاليين، وبعد مرور سنوات، لا يزالون يؤكدون أن جزءًا من الدموع التي ذرفوها عقب تلك الهزيمة بركلات الترجيح، لم تكن دموع خيبة فقط، بل دموع تضامن مع روبرتو باجيو. لأنه عندما يكون صاحب الخطأ الحاسم هو نفسه من جعلك تحلم على الأقل بتلك الكأس، فإن رؤيته يبكي على زلّة أضاعت الحلم، لا يثير إلا الإحساس بالظلم، وموجة من التعاطف، ورغبة عارمة في الصراخ: "لا بأس". حتى وإن كان يؤلم.

باجيو لم يحقق الكثير من الألقاب في مسيرته، وهذه حقيقة لا جدال فيها. 3 ألقاب دوري وكأس اليويفا واحدة لا تكفي أبدًا لتُترجم قيمة بطل من حجمه. لكن عادة قياس عظمة اللاعبين فقط بما حققوه من بطولات، ليست فكرة صائبة أبدًا في لعبة جماعية. 

كثيرون يقولون "باجيو لم يفز بدوري الأبطال"، في محاولة للتقليل من قيمته. لكنهم ربما ينسون أن دوري الأبطال في التسعينيات – وقبله كأس أوروبا للأندية – لم يكن متاحًا سوى لبطل الدوري المحلي، ثم لاحقًا لعدد محدود من الفرق الكبرى. وباجيو لم يشارك في المسابقة سوى مرتين: مع ميلان موسم 1996-1997، ومع إنتر موسم 1998-1999. ورغم ذلك سجّل 5 أهداف في 11 مباراة، بينها ثنائية شهيرة، حين قرر مدرب إنتر، جيجي سيموني، أن يبقيه على مقاعد البدلاء ثم يدفع به في الدقائق الأخيرة... والنتيجة؟ ثنائية قاتلة أسقطت ريال مدريد.

السؤال المشروع: لماذا أمضى باجيو جزءًا من مسيرته في أندية أقل شهرة؟ ولماذا حين وصل إلى ميلان أو إنتر لم ينل الثقة الكاملة من مدربيه؟

الإجابة المباشرة لم تأتِ يومًا، لكن قراءة بين سطور سيرته الذاتية "باب إلى السماء" والاستماع لبعض تصريحاته تكشف الجواب. باجيو كان محترفًا حقيقيًا، لكنه قبل كل شيء، كان عاشقًا لكرة القدم. ولكي يلعبها بأفضل صورة، كان يحتاج بيئة مثالية رياضيًا وإنسانيًا. هل تظنون أنه كان سيجد صعوبة في الحصول على عقد ضخم مع نادٍ كبير في الخارج أو في اليابان، حيث كانوا مستعدين لإغداقه بالذهب لمجرد أن يرتدي قميصهم مباراة واحدة؟ لكنه اختار "المقاطعة" بإرادته. اختيار لم يكن ضعف طموح، بل بحثًا عن طموحات غير تقليدية.

يقول في سيرته: "الفريق الذي سيعيد إحياء مسيرتي كان يجب أن يحقق 3 شروط: أن يكون في الدرجة الأولى، قريبًا من منزلي، وأن يمنحني ضمانًا معقولًا بالمشاركة. هذا استبعد منذ البداية كل العروض الخارجية، لأن اللعب خارج إيطاليا كان يعني توديع المنتخب الوطني".

فبالنسبة له، القلب والعقل كانا دومًا مع قميص الأزوري. وعندما اختار الانتقال إلى بريشيا صيف 2000، كانت مهمته الأخيرة هي انتزاع مكان في قائمة المنتخب لكأس العالم في اليابان وكوريا الجنوبية 2002. وللجيل الأصغر، كان الوضع حينها هكذا: اللعب في الخارج يعني عمليًا الابتعاد عن المنتخب، كما حدث مع زولا وفيالي في تشيلسي، وكان سيحدث لباجيو بلا شك.

الواقع أن المدرب تراباتوني، وسط ذهول الجميع، تجاهله تمامًا، حتى بعد موسمين استثنائيين مع بريشيا. خيبة ستبقى الثانية في مسيرته بعد تلك الركلة الملعونة في أمريكا. 

والمفارقة أن قرار الفيفا بزيادة عدد اللاعبين في قوائم المونديال من 22 إلى 23 لاعبًا، كان يهدف في الأصل لإتاحة الفرصة لإضافة أسماء محبوبة في الشرق مثل باجيو ورونالدو. والنتيجة؟ رونالدو صار نجم البطولة وهدافها، أما باجيو فظل "المستبعد الكبير".

Roberto Baggio AC MilanGetty Images

عندما وصف ميشيل بلاتيني، روبرتو باجيو بأنه "تسعة ونصف"، منحه – ربما دون قصد – أحد أرقى وأثمن المديح الذي يمكن أن يُوجَّه إلى لاعب في تلك الحقبة. 

ففي ذلك الزمن، كانت كرة القدم تميّز بوضوح بين "صانع الألعاب" و"المهاجم". إما أن تكون رقم 10، أو تكون رقم 9. لم تكن قد ظهرت بعد مفاهيم "المهاجم الوهمي" أو "صانع الألعاب الهداف"، فإما أن تمتلك الموهبة وتكون رقم 10، أو تمتلك غريزة التسجيل وتكون رقم 9. إما أن تصنع الأهداف فتصبح رقم 10، أو تسجّلها فتصبح رقم 9.

أما باجيو، فقد جمع بين الاثنين ببراعة استثنائية. يفعل هذا وذاك على أعلى مستوى، كما لم يفعل أحد قبله تقريبًا، وربما كما لم يفعل أحد في إيطاليا مطلقًا. بلاتيني أدرك ذلك سريعًا، فاعترف بسحر باجيو، حتى وإن كان قصده ربما الإشارة إلى أن سحر الرقم 10 الخالص، الذي طبع ثمانينيات القرن الماضي، بدأ يتلاشى تدريجيًا. ومع ذلك، وفي زمن كانت فيه معدلات التهديف في الدوري الإيطالي، أقل بكثير مما هي عليه الآن، تمكّن باجيو من تسجيل 206 أهداف، بمعدل يقارب هدفا كل مباراتين؛ أرقام مهاجم صريح من الطراز الأول.

وإذا لم يكن ذلك كافيًا لتوضيح عظمة باجيو، لمن كان صغيرًا جدًا ليشاهده أو بعيدًا جدًا لمتابعته يوميًا، يكفي القول إنه الهداف التاريخي لإيطاليا في بطولات كأس العالم، وواحد من 5 إيطاليين فقط حازوا الكرة الذهبية، وأحد آخر الإيطاليين الذين شاركوا في 3 نسخ متتالية من المونديال كلاعب أساسي، ومن أبرع منفذي الركلات الحرة المباشرة في تاريخ كرة القدم، وربما اللاعب الأكثر براعة في السيطرة على الكرة أثناء الركض الذي رآه العالم.

وليس إعجاب "جيل الألفية" الإيطالي (وغيره) بروبرتو باجيو، ضربًا من الوهم الجماعي أو مجرد حنين يحوّل ذكريات الشباب إلى ذهب. باجيو كان حقًا أحد أعظم لاعبي كرة القدم في التاريخ، ومن دون شك من الأبرز في جيله. وإذا كان حتى اليوم من يراه في الشارع، أو على شاشة التلفاز، أو في الملعب وهو يحيّي الجماهير، يشعر بانفعال طفل صغير… فلا بد أن هناك سببًا لذلك.

والأمل أن تكون هذه القراءة، قد جعلت بعض تلك الأسباب أوضح قليلًا، حتى لأولئك الذين لم يحظوا بمتعة مشاهدة باجيو في أوج عطائه.

إعلان
إعلان
إعلان
إعلان