
"ولكن الألقاب ليست كل شيء، فالأهم هو المتعـ...." انتظر لدقائق، توقف عن الركض بكلماتك، التقط أنفاسك وأمعن عقلك، فأنا أحتاج إليه الآن، انصت إليّ، سأسرد لك حكاية.
ذات يوم بزغ نجم موهبة شابة في بلاد الإنجليز، التقطه عملاق مانشستر وراهن عليه، وسُرعان ما ظفر بالخير الوفير.
فتى قادم من أحياء البرتغال الفقيرة، لا يملك المال ولا القوة، ليس لديه سوى موهبة مُلفتة لكل من رآه فوق عشب الملاعب الخضراء، يؤمن به عجوز اسكتلندي ويمتعض زملائه الكبار في ناديه الجديد، كلما لامست أقدامه الكرة.
صيحات الغضب من هذا وذاك، كلمات تُتمتم بها الأفواه سخطًا من مهاراته اللعينة، حتى همّ أحدهم يومًا بالانصراف عن ملعب التدريبات، ليصرخ مغادرًا "لا يمكنني اللعب بهذا الشكل، خمسون مراوغة كل يوم لفتى لا ترى عينه سوى قدميه مُراقصًة الكرة!".
لعنات الكبار في مانشستر دقت ناقوس الخطر في عقل العجوز فيرجسون، محادثات عابرة لإقناع الفتى البرتغالي بالكف عن المراوغة "يا بُني.. كرة القدم ليست كذلك، عليك أن تستخدم تلك المهارات لخدمة فريقك، فلسنا هنا في السيرك!".
عقل البرتغالي فهم بالكاد خطاب العجوز المُكرر، لكن الداء بدا وكأنه استشرى في جينات الفتى الفقير، فالاستعراض بالكرة بات جزءًا من شخصيته، والرسائل المتتالية بأن ثمة نجم قادم يفتك بالجميع بدأت في جلب المعجبين.
جيل ينشأ على رؤية مقاطع جنونية لمهارات شاب يتوهج يومًا تلو آخر في قلب مانشستر.. استعراضات ولحظات من الإبداع لم يعهدها الإنجليز إلا عبر لمسات ساحرة من رسام هولندي أشقر وغزال فرنسي آخر يشاركه رسم اللوحات الفنية لمدفعجية لندن.
سُرعة جنونية ومهارات مُستحدثة داخل ملاعب الساحرة المستديرة، مراوغات تقصم ظهور المدافعين، وفتى لا يتعب أبدًا من تكرار إبداعاته، ومعجبوه يواصلون التصفيق.
وبشكل مفاجئ، بدا على الفتى إدراك نصيحة سابقة من مدربه العجوز "عليك أن تستخدم مهاراتك لخدمة فريقك"، لكن الساحر الجديد أصر على رؤية المستطيل الأخضر كالسيرك.. "لأنفذ تعليمات العجوز دون أن أخسر متعتي الوحيدة، سأواصل الاستعراض والمراوغات، لكني سأمزق شباك الخصوم، سأفعل ما يرضينا جميعًا".
أمجاد بدأت في التحقق على أيدي فتى البرتغال، كرة ذهبية تعانقه لأول مرة، واتصالات ملكية تُعيد خيالات طفل ماديرا لتحقيق الحلم المنتظر، تمرد مؤجل وآخرون يطرقون الأبواب.
غضب العجوز وصرخة تحطيم الحلم صداع في رأس المجنون "لن تذهب إلى مدريد.. إذا أردت فاذهب إلى برشلونة، فنحن لن نسمح لذاك الرجل اللعين بالانتصار علينا".
خطوة للوراء.. اتفاق للبقاء لعام آخر والمكافأة حلم مؤجل، وسُرعان ما مرت الأيام حتى رأى الشاب اليافع نفسه بقميص أبيض، وملعب عريق مُتكدس بآلاف المتيمين بالصفقة التاريخية.
الحلم بات حقيقة.. والأمجاد تداعب رأس الدون.. لكن لسوء الحظ جاءت الضربات متتالية، إصابات تبعتها تلميحات بعواقب سحر دفع به فاتورة علاقة عاطفية سابقة، خيبات أمل الفريق الجديد وإقصاءات تلو أخرى، ليتحول الحلم إلى كابوس في بدايته.
لم ينفصل الإبداع عن سيء الحظ، ولم تنكسر شوكته، واصل سلوك دربه المألوف، مراوغات واستعراضات، ونقل السيرك إلى جنبات أرض الإسبان، لكن الذهب غائب دون أن يصاحب لوحات فنية رسمها البرتغالي.
حينها ظهر قصير يتحاكى عنه الكتلان، مراوغ لاتيني جديد قرر مقارعة الساحر الأوروبي، ولحسن حظه صاحبت لوحاته معانقة الكؤوس والألقاب، هنا ذاع سيطه وبدأت الألسنة في إنكار جدارة البرتغالي بمكانته.
"ماذا تفعل أيها المُهرج البرتغالي؟ لنترك لك السيرك لتمرح فيه وحدك، وهنيئًا لنا بالكؤوس والألقاب، أما مراوغاتك فلتحتفظ بها رفقة محبيك على يوتيوب".. ضحكات ساخرة دامت لسنوات، فالاستعراض واللوحات الفنية لم تعد بالنفع على صاحبها، وقتما كان هناك برغوث يضرب الأرقام القياسية بقدميه.
إدراك حقيقة أن العالم تخلى عن مشاهدة سحرك، لأجل رؤية آخرين فوق منصات التتويج، نقطة تحول في عقل الفتى الذي قرر هدم معبده وتشييد آخر على أنقاضه.
لم يعد هناك مجال لإبهار العشاق بالسحر العتيق، وهناك من يُبرهن على ذلك برقم تلو آخر، بكأس يتبعه مجد ولقب جديد، ليباغتوه بأن "كرة القدم ما هي إلا إنجازات وألقاب، أما إذا أردت المتعة فلتذهب إلى السيرك".
كلمات تضرب رأس الساحر القديم، الفكرة المجنونة تُزين عقله، انقلاب على معتقداته الكروية، ضربة قاصمة لأفكاره، تحول إلى الآلة التي أرادوها "آلة إنتاج الوسيلة التي تجلب ما يتشدقون به".
ماكينة جلب الألقاب أحدثت صخبًا وأسقطت ثمار شجرة الأرقام القياسية فوق رؤوس منتقديه، كارهو السيرك بدأوا في التذمر، ثمة تغير ملحوظ يُزعجهم، فهيا بنا نبحث عن كلمات أخرى، فالخطر قادم لا محالة، الساحر القديم ألقى بقبعته ولم يعد يفكر في ألاعيبه السابقة.
سنوات من المعاناة والضيق مما يتحقق من أمجاد وإنجازات طالبوه بها قبل سنوات، لقد انقلب السحر على الساحر، فعاشق السيرك هدم معبده وأجبر كارهيه لاحقًا على التغني بالسيرك من جديد، طالما وأن السحر جاء من معشوق آخر أحبوه دونه.
وبعد أن هُدم المعبد القديم واستبدله صاحبه بماكينة إنتاج أمجاده، سلك كارهوه طريق السيرك وتناسوا فعلتهم السابقة وبدا أن السحر قد أخذ مكانًا في قلوبهم، وتحولت معتقداتهم من كُفر بواح بساحر مانشستر إلى إيمان خالص بمتعة كرة القدم ولا شيء آخر، طالما جاءت من "ليو".
والآن يا صديقي، يمكنك إكمال ما كنت تقوله "ولكن الألقاب ليست كل شيء، فالأهم هو المتعة"، أرجو منك أن تستمتع قدر الإمكان عسى ألا تسخر لاحقًا من ساحر جديد يغير معتقدك كما فعلت لسنوات.




