إعلان
إعلان

نزهة نحو الضوء – فرانز بيكنباور أيقونة كأس العالم 1990

KOOORA
18 ديسمبر 202503:00
Icons 1990 - Franz BeckenbauerGOAL

في ليلة ساحرة بروما، وبينما كانت ألمانيا تحتفل بلقبها العالمي الثالث عام 1990، انسحب رجل واحد بهدوء بعيدا عن ضوضاء الاحتفالات. فرانز بيكنباور – يداه في جيبيه، والميدالية الذهبية تتدلّى من عنقه – كان يسير وحيدا فوق عشب ملعب الأولمبيكو، غارقا في أفكاره بينما كان لاعبوه يحتفلون بانفعال. كانت لحظة هدوء وسط نشوة عارمة، المشهد الختامي لإمبراطور كرة القدم.

أنا مارتن تايلر، وهذه القصة – المستوحاة من المقالة التي كتبها فيليبو كالتالدو – هي واحدة من عشر حلقات ضمن سلسلة Icons، بودكاست تقدّمه منصة GOAL وتعيد استكشاف آخر عشر نسخ من كأس العالم من زوايا غير تقليدية، بهدف إعادة روح البطولة إلى الحياة من جديد.

Franz Beckenbauer Argentina Germany World Cup 08071990Getty

ما زال هناك، حتى يومنا هذا، ذلك الوميض الذي يظهر خلال احتفالات الفوز بكأس العالم، حين تنقلب الأحداث المرسومة بعناية إلى فوضى عارمة لا تخضع لأي نص أو مخطط: جينارو جاتوزو، على سبيل المثال، وهو يجري عبر عشب ملعب برلين الأولمبي مرتديا سرواله الداخلي فقط بعد تتويج إيطاليا عام 2006، بعدما وزّع بقية ملابسه على التيفوزي في المدرجات؛ إيكر كاسياس وهو يقبّل صديقته آنذاك، الصحفية التلفزيونية سارة كاربونيرو، مباشرة على الهواء خلال مقابلة من المفترض أن تكون مهنية عقب تتويج إسبانيا عام 2010؛ تلك اللحظات الغريبة عام 2022 حين تخيّل الطاهي التركي "سولت باي" نفسه لاعبا في منتخب الأرجنتين، فأمسك الكأس من يد ليونيل ميسي ورفاقه؛ ولحسن الحظ، لم يكن يحمل الملح معه.

ثم هناك ذلك المشهد الذي انطبع في ذاكرة كل مشجع ألماني عاش تلك الحقبة: فرانز بيكنباور، بشَعره البني المجعَّد، ومعطفه الطويل الفضفاض، ويداه في جيبي سرواله الفاتح الواسع، والميدالية الذهبية حول عنقه، يسير ببطء فوق عشب ملعب الأولمبيكو، غارقا في شروده، بينما يحتفل لاعبوه من حوله بحماس طفولي، يطاردهم المصورون وكاميرات البث. كانت لحظة حميمية من العزلة والسكينة وسط جنون جماعي عارم.

يقول بيكنباور عن تلك اللحظات المنفردة: "كان كل شيء يبدو بعيدا جدا. رغم الهتاف الصاخب والأجواء المدوية. كنت فقط على أرض الملعب، وأدرك أنني أتقدم للأمام، لكنني شعرت وكأن أحدهم يدفعني، يشجعني، يجذبني. ولكن، ما الذي كنت أفكر فيه في تلك اللحظة؟ لا أتذكر. ربما كنت أحلم".

كان ذلك في الثامن من يوليو/تموز 1990، وكانت ألمانيا قد أصبحت لتوّها بطلة للعالم للمرة الثالثة، وهو إنجاز لم تسبقها إليه سوى البرازيل وإيطاليا. وفي تلك الليلة السحرية الأخيرة من كأس العالم في إيطاليا، أصبح الأسطورة بيكنباور الملقب بالقيصر، الضوء الساطع لكرة القدم الألمانية، وظهر كرئيس غير معلن لبلد يعيد اكتشاف نفسه من جديد.

أقيمت البطولة في عام بدا فيه كل شيء ممكنا لألمانيا وشعبها. وقد منح بيكنباور ولاعبوه البلاد صيفا من البهجة المشتركة. ففي 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 سقط جدار برلين، وبدأت الدولتان الألمانيتان عملية الاندماج – أو على الأقل ذلك ما كانت تفهمه جمهورية ألمانيا الاتحادية الغربية باعتباره "اندماجا".

Beckenbauer ZagalloGetty Images

وفي 3 أكتوبر/تشرين الأول 1990، بعد أشهر قليلة من ليلة روما، انضمّت ألمانيا الشرقية رسميا إلى ألمانيا الغربية، لينتهي بذلك عهد "الاشتراكية الواقعية" على الأراضي الألمانية بعد أربعين عاما مؤلمة من الانقسام. ورغم عدم مشاركة لاعبين من ألمانيا الشرقية في مونديال إيطاليا، إلا أن الاحتفالات باللقب عمّت الدولتين معا. لقد بدا كأس العالم 1990 أول تجربة ألمانية جامعة، وأول انتصار مشترك لأمة ظلت مقسّمة لزمن طويل.

فرانز أنتون بيكنباور، البالغ من العمر 44 عاما في تلك الليلة بروما، حقق في آخر مباراة له كمدرب للمنتخب الألماني ما لم يسبقه إليه سوى البرازيلي ماريو زاجالو: الفوز بكأس العالم لاعبا ومدربا معا.

كان الرجل، الذي يُعد ربما أقل الألمان تقليديةً، ذلك الواثق الخفيف الأنيق الحساس المحبّ للجمال، هو القائد الحقيقي لهذا الانتصار. بيكنباور طفل الشمس، صاحب الهالة التي تجعل المكان يتوقف لحظة عند دخوله. بطل العالم لاعبا، بطلا للعالم مدربا، ولاحقا المهندس الحقيقي لـ“الحكاية الخرافية لصيف 2006” في ألمانيا. يبدو أن كل شيء كان يأتيه بسهولة، إلى أن جاءت سنوات لاحقة لم يعد فيها أي شيء سهلا.

Pele Franz BeckenbauerGetty Images

عندما ظهرت اتهامات الفساد المرتبطة بملف استضافة ألمانيا لمونديال 2006، والذي كان يقوده، ثم عندما فقد أحد أبنائه بسبب السرطان، انكسر قلبه. خيّم عليه الحزن، خضع لعمليات في شرايين القلب، ثم بدأ يبتعد عن الأضواء. وبعد ذلك أصيب بجلطة في العين، وباركنسون، وترافق ذلك مع بداية الخرف. وفي 7 يناير/كانون الثاني 2024، رحل عن العالم مبكرا عن عمر يناهز 78 عامًا.

لكن في عام 1990، كانت تلك النهاية الحزينة لأسطورة تحولت أخيرا إلى إنسان مثل غيره، لا تزال بعيدة جدا. قال بيكنباور للاعبيه في غرفة الملابس قبل النهائي: "اخرجوا إلى هناك.. استمتعوا.. والعبوا كرة القدم".

كانت تلك أبسط الخطب، خطابا يكشف الكثير عن شخصية بيكنباور، وكشف أيضا أنه لم يكن مدربا ساذجا أو مشتتا؛ فقد كان طوال البطولة يُحضر فريقه للخصوم بأدق التفاصيل، ولم يظهر لاعبوه في أي مباراة وكأن شيئا فاجأهم. كانوا دائما الطرف الأقوى والمسيطر.

ومع ذلك، كان كل لاعب – بمن فيهم نجوم العالم الحاليون والمستقبليون مثل لوثار ماتيوس، يورجن كلينسمان، أندرياس بريمه، يورجن كولر، توماس هاسلر، ورودي فولر – يعرف جيدا ما الذي لا يستطيع فعله. في هذه النقطة، كان بيكنباور بلا رحمة. وبالطبع، كان يعرف أن حتى قائده لوثار ماتيوس، الذي قدّم بطولة مذهلة في إيطاليا، لا يمتلك الموهبة الفريدة التي امتلكها هو. ولم يكن ماتيوس يضاهي دييجو أرماندو مارادونا، رغم أن الأرجنتيني وصفه لاحقا بأنه أصعب منافسيه وأقربهم إلى قلبه بين خصومه.

لكن تأثير بيكنباور على كرة القدم العالمية كان أعظم من ذلك. فربما لم يسبق لأحد أن امتلك القدرة على التعامل مع الكرة مثل مارادونا، لكنه لم يخترع مركزا جديدا. أما بيكنباور، فقد فعل. لقد حوّل مركز الليبيرو الدفاعي إلى صانع ألعاب متأخر، إلى "قائد أوركسترا" يبدأ الهجمة من الخلف. كان بمثابة الظهير الربعي في كرة القدم الجميلة، يقود اللعب ويستنهض الهجوم، حتى جاءت ثورة الخط الخلفي الرباعي والرقابة عبر المساحة والضغط العالي بعد سنوات قليلة، بقيادة أريجو ساكي في ميلان، فغيرت شكل اللعبة.

كانت مهارات بيكنباور كلاعب تتمثل في التمريرات القطرية الطويلة الدقيقة بوجه القدم الخارجي، والمراوغات الهادئة التي يخرج بها بالكرة من قلب الدفاع. ظهره مستقيم، وعيناه دائما على الملعب.

قبل أن يتم اختراع فكرة "الجدل حول الأعظم في التاريخ”"، كان عالم كرة القدم يُدار عبر ثلاثة أسماء: بيكنباور بأناقته، وبيليه بقوته وأهدافه، ويوهان كرويف بعبقريته وصورته الرمزية في كرة القدم الشاملة الهولندية.

Beckenbauer 1990 15 07 2018Getty Images

القيصر فرانز، الملك بيليه، والملك يوهان… ثلاثة ملوك حكموا كرة القدم.

والآن، كمدرب، لم يكن بيكنباور يجد حرجا في تذكير لاعبيه بأنهم بشر يمكن أن يخطئوا. بعد الفوز الصعب 1-0 على تشيكوسلوفاكيا في ربع النهائي، نال ماتيوس وزملاؤه أعنف محاضرة في حياتهم. يصف أندرياس بريمه تلك اللحظات لاحقا بقوله: "كان فرانز خارج نفسه تماما. شتَمَنا ووصفنا بأننا أغبى اللاعبين، وركل صندوق الثلج عبر غرفة الملابس. لم نفهم ما الذي يحدث".

واتفق ماتيوس معه، مؤكدا أنه لم يتعرض لمثل تلك الإهانة من قبل، وأضاف: “لكن فرانز فعل ذلك عمدا. كان دائما يفكر بالمستقبل، وكان يريد إيصال رسالة".

بعد أيام قليلة، جاءت مباراة نصف النهائي أمام إنجلترا لتكون الأفضل في البطولة بأكملها، حيث قدم المنتخبان عرضا رائعا واستنزفا كل طاقتهما على مدار 120 دقيقة. في النهاية، فازت ألمانيا بركلات الترجيح، وقال جاري لينيكر عبارته الأسطورية: “كرة القدم لعبة بسيطة: 22 رجلا يلاحقون الكرة لمدة 90 دقيقة، وفي النهاية يفوز الألمان دائما".

وفي نشوة الانتصار في المباراة النهائية، قال بيكنباور شيئا مشابها بعد أيام، لكن دون سخرية لينيكر اللطيفة. وبذلك، وضع عبئا يكاد لا يُحتمل على كاهل مساعده السابق وخليفته فوجتس. وقال: "نحن الآن رقم واحد في العالم، وكنا رقم واحد في أوروبا لفترة طويلة. الآن سينضم إلينا اللاعبون من ألمانيا الشرقية. أعتقد أن المنتخب الألماني سيكون لا يُقهر لسنوات طويلة. أشفق على بقية العالم".

لكن الأمور لم تسر كما توقع القيصر. تحت قيادة بيرتي فوجتس، الرجل الألماني البسيط الذي لم تتجاوز مسيرته الاحترافية حدود مونشنجلادباخ، على عكس بيكنباور العالمي الأنيق، تم إقصاء المنتخب الألماني من ربع النهائي في 1994 بالولايات المتحدة، ثم ربع النهائي أيضًا في 1998 بفرنسا. وكان لقب كأس أوروبا 1996 في إنجلترا – بهدف أوليفر بيرهوف الذهبي – هو اللقب الوحيد لألمانيا الموحدة في هذا العقد؛ وإن كان من اللافت اختيار ماتیاس زامر، ابن ألمانيا الشرقية القادم من دريسدن، أفضل لاعب في البطولة.

لكن في تلك الليلة من عام 1996، كان مشهد تجوال بيكنباور في روما بعيدا تماما، كما كان بعيدا مشهد أول مباراة له كمدرب للمنتخب. ففي عام 1984، وبعد خروج ألمانيا من دور المجموعات لأول مرة تحت قيادة يوب درفال في بطولة أوروبا، تم تعيينه مدربا، بفضل حملة قادها أصدقاؤه في صحيفة "بيلد".

في اليوم الذي أُقيل فيه درفال، خرجت الصحيفة بعنوان ضخم: "فرانز: أنا جاهز".

لم يكن بيكنباور قد قال سوى إنه يستطيع تخيّل نفسه في دور استشاري، لكن القصة انتشرت. وعندما سأله الاتحاد الألماني لكرة القدم رسميا عما إذا كان يريد خلافة درفال وإنقاذ كرة القدم الألمانية، لم يستطع – أو لم يُرد – التراجع. خلال ليلة واحدة فقط، تحوّل بيكنباور، البالغ 39 عاما حينها، من كاتب عمود ولاعب معتزل منذ آخر مباراة له مع كوزموس نيويورك في سبتمبر/أيلول 1983، إلى "مدير المنتخب".

مدير وليس "مدربا"، لأن بيكنباور لم يحصل أبدا على رخصة تدريب. كان دائما هناك أحد مساعديه الحاصلين على الرخصة يشغل منصب المدرب الوطني رسميا. لكن بيكنباور كان هو "الرئيس الفعلي". وحتى إن لم يبتكر كرة جديدة كمدرب، كان دقيقا مثلما كان ناجحا. نهائي كأس العالم 1986، نصف نهائي "يورو 1988"، الانتصار في روما، ثم لقب الدوري وكأس الاتحاد الأوروبي لاحقا كمدرب مؤقت مرتين مع بايرن ميونخ.

Guido Buchwald Germany 1990 World CupGetty Images

السرّ الحقيقي لنجاح ألمانيا في مونديال 1990 – إلى جانب الإعداد الاستثنائي والصرامة التحفيزية – كان روح الفريق.

لعبت ألمانيا نصف بطولة "على أرضها" في إيطاليا. خمسة لاعبين في التشكيلة الألمانية التي وصلت إلى النهائي كانوا يلعبون في الدوري الإيطالي، أقوى دوري في العالم آنذاك. وإلى جانب توماس بيرتهولد ورودي فولر لاعبي روما، كان كل من لوثار ماتيوس، وأندرياس بريمه، ويورجن كلينسمان يمثلون القوّة الألمانية في إنتر ميلان. وبعد كأس العالم، لحق بهم العديد من اللاعبين الألمان إلى إيطاليا. كان إنتر قد فاز بالاسكوديتو في العام السابق، وكان لوثار ماتيوس أفضل لاعب في الدوري الإيطالي إلى جانب مارادونا لاعب نابولي.

في الوقت الذي سُمِحَ فيه لمارادونا والأرجنتين بخوض ثلاث من مبارياتهم السبع في مونديال 1990 في نابولي – حيث، وبدعم جماهير المدينة، أطاحوا بإيطاليا من البطولة – لعب المنتخب الألماني خمس مباريات في ملعب سان سيرو. وهكذا أصبح ملعب جوزيبي مياتزا، هذه الكاتدرائية الكروية، الملعب البيتي للألمان بكل معنى الكلمة. كما أقام الفريق في سكن قريب – مجمع من القلاع على بحيرة كومو.

استفاد بيكنباور من الدروس السلبية لعام 1986، حين أصيب اللاعبون بالملل خلال معسكر مالينته الرياضي، فقرر فتح مقر الإقامة أمام عائلات اللاعبين. على الأقل خلال ساعات النهار، كانت زوجات اللاعبين مسموح لهن بزيارة المعسكر واستخدام حوض السباحة. كما كان يُسمح بتناول الجعة أو كوب من النبيذ في المساء، ولم يكن المدخنون يتعرضون للتوبيخ. وإن شعر أحد اللاعبين بحاجة ملحّة للخروج، كانت هناك سيارة بيجو مكشوفة صغيرة خاصة بلوثار ماتيوس متوقفة أمام الباب بمفتاحها في مكانه. لقد ترك بيكنباور الحبال ترتخي.. ما دام الأمر لا يتعلق بكرة القدم.

بدأت البطولة بفوز 4-1 على يوغوسلافيا، مع هدفين للوثار ماتيوس. وكانت انطلاقته المنفردة الديناميكية وتسديدته القوية التي سجل بها الهدف الثالث واحدة من أشهر لقطات البطولة. وبعد الفوز 5-1 على الإمارات، والتعادل المحترم 1-1 أمام كولومبيا بقيادة كارلوس فالديراما ورينيه هيجيتا، جاء الموعد مع الغريم الأزلي هولندا في دور الـ16.

شهدت تلك المباراة حادثة شهيرة حين طُرد رودي فولر بعد أن بصق عليه فرانك رايكارد – واحدة من أكثر القرارات التحكيمية ظلما في التاريخ – بينما خاض كلينسمان مباراة العمر، وفازت ألمانيا 2-1. ثم جاءت المباراة أمام تشيكوسلوفاكيا، وركلات الترجيح ضد إنجلترا، وأخيرا النهائي الكبير ضد الأرجنتين مرة أخرى، كما حدث في نهائي 1986، لكن هذه المرة كان الألمان هم المرشحون الأبرز.

غير أن النهائي جاء مخيبا، مباراة لا يرغب أحد في مشاهدتها اليوم على يوتيوب أو فيفا+ أو أي منصة أخرى.

افتقدت الأرجنتين أربعة لاعبين بسبب الإيقاف، من بينهم المهاجم كلاوديو كانيجيا، الذي تسبب في بكاء إيطاليا بهدف التعادل في نصف النهائي، وهو الهدف الذي قاد لاحقا لركلات الترجيح التي منحت الأرجنتينيين التأهل.

وخلال مونديال 1990 بأكمله، لم تُظهر الأرجنتين أي رغبة حقيقية في تسجيل الأهداف؛ فقد اعتمدت على الدفاع القاسي والالتحامات الخشنة، لكن النهائي تحوّل إلى سلسلة من الركلات والعرقلات. أنهى المنتخب الجنوب أمريكي المباراة بتسعة لاعبين، ولم يصنع فرصة حقيقية واحدة للتسجيل طوال 90 دقيقة.

أما أفضل لاعب في المباراة فكان جيدو بوخفالد من شتوتجارت، المدافع ذو الشعر الأشقر الطويل، الذي خاض مباراة العمر بمراقبته لدييجو مارادونا.

يقول بوخفالد عن مواجهته الشخصية مع أفضل لاعب في العالم: "كان مزاجه جيدا في البداية، لكنه أصبح أكثر عصبية مع الوقت".

وبينما كانت المباراة تمضي، أصبح مارادونا "أصغر وأصغر". وفي إحدى اللحظات، وبعد التحام جديد فقده أمام بوخفالد، جلس مارادونا على الأرض وتنهّد قائلا باستياء: "أنت… مرة أخرى؟".

هذه الجملة كانت بمثابة استسلام غير مشروط من النجم العالمي أمام لاعب وسط دفاعي من إقليم شوابيا. ونال بوخفالد مكافأة رمزية لا تُنسى: فمنذ ذلك اليوم، أصبح عشاق كرة القدم في ألمانيا يلقبونه بـ"دييجو".

"دييجو الجديد" ورفاقه لم ينجحوا أيضا في تقديم الكثير هجوميا في تلك الأمسية. ونتيجة لذلك، وللمرة الأولى في التاريخ، يُحسم نهائي كأس العالم بركلة جزاء. وربما كان الأمر منطقيًا للغاية: ففي مباراة امتلأت بارتكاب الأرجنتينيين للعرقلات والخشونة، جاءت الركلة الحاسمة من لقطة لا تعتبر خطأ. سقط رودي فولر على ساق روبرتو سينسيني الممدودة داخل منطقة الجزاء، ليتم احتساب ركلة جزاء يعترف فولر نفسه اليوم بأنها لم تكن لتحظى بموافقة تقنية الفيديو لو وُجدت آنذاك.

ارتبطت ركلة الجزاء التي سدّدها أندرياس بريمه، والتي تم الاحتفال بها في ألمانيا وإيطاليا على حد سواء – في ملعب الأولمبيكو الذي تحول إلى بحر من الأعلام السوداء والحمراء والذهبية، والخضراء والبيضاء والحمراء – بقصة خاصة رائعة، قصة تبدو بعيدة تماما عن روح الزمن وتكشف الكثير عن كرة القدم في ذلك العصر. فلم يتقدم بريمه لتسديد الركلة إلا لأن لوثار ماتيوس لم يكن يشعر بالثقة الكاملة لأن نعل حذائه انكسر في الشوط الأول، ويقول ماتيوس متذكرا: "عيب مصنعي. كانت إحدى المسامير تتدلّى من أسفل قدمي… كأنها سنّ طفل على وشك السقوط".

ماتيوس – الذي كان طوال مسيرته تحت عقد مع بوما، لأن والده كان يعمل فراشا في مقر الشركة في هرتسوجناوراخ – كان يرتدي حذاء أديداس "كوبا مونديال" مع المنتخب منذ 1982. ففي تلك الحقبة، لم يكن مسموحا للاعبين في منتخب ألمانيا تحديدا بارتداء الأحذية التي يفضلونها أو أحذية رعاتهم. فالمنتخب كان أرضا لأديداس (حتى عام 2027 حين تتولى نايكي الرعاية).

Lothar Matthaus Diego Maradona World Cup 1990Getty Images

ولكن لنَعُد إلى ماتيوس وحذائه المكسور، الذي أصبح معروضا الآن في متحف كرة القدم الألماني لأنه يحمل قصة أخرى مذهلة.

في عام 1988، لامست قدماه قدمي دييجو أرماندو مارادونا! ففي مباراة اعتزال ميشيل بلاتيني، نسي مارادونا حذاءه، فأعاره ماتيوس حذاءه الاحتياطي – نفس زوج أحذية كوبا مونديال الذي انكسر لاحقا في نهائي روما. كان مارادونا يربط حذاءه بطريقة خاصة، إذ يترك دائمًا إحدى الأربطة بلا استخدام. ترك ماتيوس الرباط كما هو، اعتاد عليه، ولعب أهم نهائي في حياته بحذاء مربوط بأسلوب مارادونا!

وبعد انكسار النعل، غيّر ماتيوس حذاءه بين الشوطين، لكن الحذاء الاحتياطي كان أكبر بنصف مقاس. شيء يصعب تخيله بعد 35 عاما، حين يحصل كل لاعب اليوم ثلاثة أزواج كاملة من الأحذية لكل مباراة ودية! أنت تلعب نهائي كأس العالم.. ومسؤول المعدات لا يملك حذاء مناسبا لمقاسك!

على أي حال، لم يشعر ماتيوس بثقة كاملة في الحذاء الأكبر، فقرر عدم تسديد ركلة الجزاء. وهكذا تقدّم بريمه الذي سدّد الكرة بدقة مذهلة في أقصى الزاوية اليسرى السفلية، بشكل لم يمنح أي فرصة لسيرجيو غويكوتشيا، المتخصص في التصدي لركلات الترجيح.

استدار بريمه، وركض، وحرّك يديه صعودا وهبوطا أمام صدره، ثم قفز قفزة مضحكة.. مرة، مرتين.. قبل أن يبتلعه زملاؤه تحت كومة من العناق. احتفال تلقائي، عفوي، غير مُحضّر أبدا.. وتم تقليده مرارا في الأسابيع التالية.

ألمانيا أصبحت بطلة للعالم. تعانق اللاعبون وقفزوا بجنون. بكى مارادونا. وأجرى بيكنباور مقابلة بينما يستعد لاعبوه لمراسم التتويج. أطلق الملعب يطلق صافرات الاستهجان عند تتويج لاعبي الأرجنتين. وبكى مارادونا بإصرار وألم شديد.

نساء بفساتين بيضاء فضفاضة، وعلى رؤوسهن منحوتات رخامية عملاقة – رومولوس وريموس مع الذئبة الكابيتولينية، الكولوسيوم، وغيرها – صعدن إلى المنصة. مشاهد جنونية. ميداليات ذهبية للاعبين والمدربين الألمان.. ثم كأس العالم.

وقال المعلّق المساعد رومينيجه، قائد منتخب 1986 الخاسر في النهائي: "بالتأكيد هذا (كأس العالم) هو أكثر شيء يحصل على القبلات في الملعب". فرد المعلق جيرد روبنبور مازحا: "نعم طبعا، فهم لا يجرؤون على لمس السيدات بعد".

بدأ عرض ضوئي مذهل. جرى اللاعبون عبر الملعب حاملين الكأس، وهتفت الجماهير الألمانية "النصر".

سيب ماير، حارس منتخب 1974 ومدرب الحراس حينها، صوّر كل شيء بكاميرا Super 8 – ولم يرى هذا الفيلم النقي النور إلا بعد 22 عاما، في مهرجان برلين السينمائي، بعنوان: "نحن الأبطال".

ملعب الأولمبيكو تحول إلى بحر من الأعلام السوداء والحمراء والذهبية، والخضراء والبيضاء والحمراء. اللاعبون يقفزون. يقفزون. يهتفون. الحارس بودو إلجنر يحمل هاسلر على ظهره، أندرياس بريمه يقبّل الكأس. لكن فرانز بيكنباور طل يمشي نحو الضوء.

إعلان
إعلان
إعلان
إعلان