EPAإقليم الباسك أو الإقليم الإسباني الأكثر تطبعًا بطباع الألمان...وأنا في رحلة عمل لإقليم الباسك، فوجئت بموطن يجمع بين جمال الطبيعة الخلاب، نظام اجتماعي واقتصادي مميز ثم جانب رياضي مدهش!
يكفي أن أقول لكم مثلًا أنه في جل محافظات الإقليم (بيلباو، فيتوريا، إيبار وسان سيباستيان)، قرابة الـ70% من السكان يُمارسون الرياضة بشكل يومي أو يكاد، وهي إحصائيات رسمية قدّمتها الأندية بكل فخر لي ولبعثة الصحفيين التي قامت بزيارتهم مؤخرًا من أجل تغطية ديربي الباسك ثم مباراة ريال مدريد أمام ألافيس.
ولمعرفة وقع تلك الثقافة على كرة القدم، لا يجب أن تذهب بعيدًا، فإقليم الباسك بكل بساطة هو الإقليم الإسباني الأكثر تمثيلًا في الدرجة الإسبانية الأولى، وذلك راجع أولًا لثقافة أتلتيك بيلباو الذي يعتمد على أبناء المنطقة حصرًا ثم كبير الإقليم الآخر ريال سوسيداد، الذي ورغم انفتاحه على بقية العالم، إلا أن 70% من لاعبيه تخرجوا من مدرسته، والأمر يتعلق قطعًا بلاعبين ذوي جودة عالية.
التجربة الباسكية تجربة ناجحة في أشياء كثيرة، فهو الإقليم الإسباني أيضًا الممثل بأكبرعدد من الأندية الممارسة في الدرجة الأولى بعد إقليم مدريد الذي يملك بالإضافة إلى عملاقي المدينة كلًا من ليجانيس، خيتافي ورايو فاليكانو.
ولربما يمكن لأنديتنا العربية الاستفادة منها في أشياء كثيرة، يأتي على رأسها جانب تكوين اللاعبين ثم الجانب الاقتصادي الذي نجحوا فيه مؤخرًا نجاحًا كبيرًا.
الأندية الأربعة في إقليم الباسك متسمكة تمسكًا شديدًا بمحليتها، إذ تولي أهمية كبيرة جدًا للاعبين المحليين، ثم للجانب العاطفي كونها قريبة جدًا من جماهيرها وتعطيهم حتى حق اتخاذ القرار في التسيير... فمثلًا، أتلتيك بيلباو، الذي يُعد أحد أغنى الأندية في إسبانيا، لا يتخذ قرارًا مهمًا سوى باللجوء إلى تصويت منخرطيه، الذين لا يقل عددهم عن 40 ألفًا، ويُعتبرون هم ملاك النادي الأساسيين.
نفس الأمر يحدث مع إيبار الذي يضم قرابة 11 ألف مالكًا للأسهم في النادي، الذين إن أرادوا الحضور جميعًا لمباراة ما في ملعب إيبوروا، فلن يتسنى لهم ذلك لأن سعة الملعب لا تتعدى 6 آلاف.
ذلك الطابع المحلي هو قاعدة تلك الأندية من أجل بلوغ العالمية، فهم يستغلونه لإظهار تميزهم عن البقية، ويُبرزون نجاحه من أجل التسويق له وجعله مادة لاستقطاب الأنظار الخارجية.
وقد نجح أتلتيك بلباو نجاحًا كبيرًا في هذا الاتجاه، وزاد من جماهيريته الكبيرة في كل أرجاء العالم، بما في ذلك في المملكة العربية السعودية، حيث يحظى بمتابعة معتبرة، وهو نموذج غير بعيد عن ذلك المتبع في ريال سوسيداد.
ألافيس بالمقابل يُسيّر بعقلية نادٍ أمريكي بحت، فقد عرف تطورًا كبيرًا في السنوات الأخيرة بفضل استثماره في هؤلاء اللاعبين الذين لم ينجحوا مع الأتلتيك أو ريال سوسيداد.
"هنا يلعبون بضغوط أقل، تُوفّر لهم ظروف النجاح ويعيشون في أنظف مدينة إسبانية"، ذلك كان تفسير أحد المسيرين داخل النادي، الذي بدا أكثر براجماتية من الآخرين.
ومضى يقول: "اليوم، علامتنا التجارية تتطور بفضل العمل الذي تقوم به منظمة الليجا، لكننا هنا نركز أكثر على المحلية ثم على لاعبينا. إن نجحنا في جعل كل سكان فيتوريا يشجعون ألافيس، فسنكون قد كسبنا الرهان".
ماذا عن صناعة كرة القدم والجانب المادي؟
عند الحديث عن هذا الجانب، أستذكر تصريحًا لرئيس أتلتيكو مدريد إنريكي سيريزو قبل بضع سنوات من الآن، عندما تحدث عن رحيل لاعبه البلجيكي كاراسكو "لم يعد هناك مجال للانتماء أو الأحاسيس في كرة القدم، نحن الآن أمام صناعة صرفة، الهدف منها كسب أكبر قدر ممكن من المال".
ما قاله سيريزو متطرف في رأيي، فمن دون أحاسيس ولا انتماء، لن يكون هناك اقتصاد أصلًا في كرة القدم، فأنت تبيع أقمصتك لأن الجماهير تحبك وتشعر بالانتماء لك، وإلا فمن سيدفع قرابة 100 يورو من أجل قميص مخطط بلونين أو أكثر؟
نفس الأمر ينطبق على نسبة حضور الجماهير أو المشاهدة التلفزية التي أصبحت مصدر الدخل الأول في كرة القدم، فلكم أن تتخيلوا كم ستتراجع نسبة المشاهدة من دون انتماء؟
نقطة الانتماء تلك فهمها أتلتيك بيلباو جيدًا، ويعطي أهمية كبيرة للجانب الاجتماعي. الأتلتيك رفض مثلًا بناء ملعبه الجديد خارج المدينة لأنه ببساطة يريد البقاء قريبًا من المطاعم، المقاهي والحانات في وسط المدينة، التي تعمل بشكل كبير في أيام المباريات.
وقال مدير التسويق في النادي: "معظم الأندية تبني ملاعبها خارج المدينة لكي تفتح مطاعمًا ومحلات خاصة بها وتجبر الجماهير على الشراء منها لأنهم لا يملكون خيارًا آخر. أما هنا، فنحن نفكر في بيئتنا، جماهيرنا ومدينتنا"
من الخارج، قد تبدو لك الأندية الباسكية منغلقة على نفسها، لكن ما إن تغوص في أسرارها، حتى يتبين لك العكس تمامًا!
هي أندية استغلت ما يميزها عن الآخرين للتطور في كل المجالات، وصدقوني، بيلباو لن يتخلى عن سياسة التعاقد مع اللاعبين الباسكيين فقط مهما حصل، خاصة أنه ما فتئ يحصد النجاحات الرياضية والمالية، وهويته باتت نقطة استقطاب للاستثمارات ومحط دراسة لأندية كثيرة سواءً في إسبانيا أو خارجها.





