
في خضمّ ما تمرّ به تونس من تحوّلات خلال السنوات الأخيرة، ولا سيّما بعد نقلة 25 يوليو 2021، وفي ظلّ أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية متلاحقة، لم يجد التونسيون عزاءهم أو لنقل سعادتهم وبهجتهم سوى في بطلتهم المتألقة «أنس جابر» لاعبة كرة المضرب المصنّفة الثانية عالميا في لاعبات التنس المحترفات، وهي مرتبة لم تدركها قبلها لاعبة عربية ولا أفريقية. وبذلك غدت أنس جابر فخر تونس وفخر العرب أجمعين من عشاق هذه الرياضة خصوصًا.
لقد أصبحت هذه اللاعبة المجتهدة مثالاً يُحتذى، وعنوانًا للبذل والمثابرة لما أظهرته من اجتهاد وعزيمة عزّ نظيرها. ولعلّ ما حقّقته من نتائج فاقت سقف التوقعات، جعل العديد من الملاحظين والمعلّقين في مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام المقروءة والمرئية يقارنون بين ما قدّمته أنس لتونس من نتائج أسعدت التونسيين وما يقدّمه السياسيون، دون استثناء، من فشل يزيد في إحساس التونسيين باليأس والحيرة بشأن مصير البلاد.
ولا يمكن المرور سريعًا على اختيار التونسيين لقب وزيرة السعادة لأنس، ولو كان افتراضيا، فهو يعبّر عمّا ينشده التونسيّون من حاجة شديدة إلى مشاعر الفرح والبهجة والسعادة، إلى إنجازات نوعية تزيح الغمّة وتنشر الفرحة وتعيد البسمة إلى وجوههم. ولئن يستمدّ البعض سعادتهم من الرفاه المادي، فإنّ عموم التونسيين اليوم يؤكدون على أنّ السعادة قد تأتي أيضا من الإنجازات الوطنية غير المسبوقة. وقد كانت أنس جابر ولا تزال مصدر هذه السعادة بما حققته في هذه الرياضة الفردية من بطولات وتتويجات بوّأتها المرتبة الثانية عالميًا.
واللافت أنّ «وزيرة السعادة» لم تجد أمامها الطريق مفروشة بالورد، وإنّما كانت مسيرة هذه اللاعبة تتأرجح بين صعوبة البدايات وتحدّي المنافسات لبلوغ أحلى الأمنيات؛ فبعد أن تأكدت موهبتها في عالم الكرة الصفراء، ذهبت للتدرب في بلجيكا وفرنسا، بتشجيع من والديها وخاصة أمّها التي ضحّت: «تضحية كبيرة لمساعدتي على تحقيق حلمي.. وقد آمنت بي، ومنحتني الثقة كي أصل لما أنا فيه». كما تقول البطلة أنس جابر.
ولأنّ أنس كانت محاطة بأشخاص رائعين فهي لم تستسلم، بل آمنت بقدرتها على تحقيق حلمها الذي لم يكن سهل المنال، بل كانت دونه عوائق وتحديات استطاعت هذه البطلة أن تتجاوزها وتتغلب عليها خلال مسيرتها الوردية؛ فقد قد شاركت نجمة تونس في العديد من البطولات، بداية من عام 2009 على مستوى الناشئات، وفازت ببطولة سماش الدولية للناشئات، في مصر، وبطولة المغرب الدولية للناشئات. ومنذ العام 2018، اقتحمت أنس جابر عالم المحترفات بقوة لتكتب تاريخًا جديدًا مع اللعبة وتحقق إنجازات غير مسبوقة في البطولات الكبرى بداية من نسخة أستراليا المفتوحة لعام 2020 لتظهر لأول مرة في قائمة أفضل 50 لاعبة تنس. وواصلت البطلة التونسية التقدم في التصنيف العالمي، لتصل إلى المرتبة الـ23 في مايو 2021 بعد بلوغها الدور النهائي لبطولة تشارلستون المفتوحة. ووصلت جابر للنهائي الثالث في حياتها المهنية وصنعت التاريخ كأول امرأة عربية تفوز بلقب لرابطة محترفات التنس في بطولة برمنجهام كلاسيك، بفوزها على الروسية داريا كاساتكينا. وحققت أنس جابر في بطولة كندا للأساتذة عدة انتصارات على المصنفات المتقدمات وأبرزهن حاملة اللقب الكندية بيانكا أندريسكو، لتظهر بعدها لأول مرة في قائمة أفضل 20 لاعبة في أغسطس 2021. وفي 7 مايو 2022 هزمت البطلة التونسية نظيرتها الأمريكية جيسيكا بيجلا في نهائي بطولة مدريد، لتصبح أول لاعبة عربية وأفريقية تفوز بلقب إحدى البطولات ذات الـ1000 نقطة.
وارتفع تصنيف أنس جابر من جديد لتصبح في المركز الثاني في التصنيف العالمي، عقب تتويجها ببطولة برلين كثالث ألقابها في عالم المحترفات. وواصلت أنس جابر بعدها إنجازاتها في البطولات الكبرى، بعدما بلغت نهائي ويمبلدون كأوّل لاعبة عربية وأفريقية تحقّق هذا الإنجاز، قبل أن تواصل اكتساح عالم الجراند سلام بإنجازها الجديد في نهائي أمريكا المفتوحة، وتغدو أنس بذلك، اللاعبة المفضلة لدى الجماهير في نيويورك بسبب أدائها الإبداعي وشخصيتها الحماسية.
هذه هي البطلة، الملهمة، وزيرة السعادة... أحبّها التونسيون والعرب وغيرهم؛ فعلى محياها يبدو الأمل وفي حضورها في ملاعب التنس تلاحظ الجد والعمل، وفي حضورها الإعلامي تلحظ التواضع وحب الوطن؛ فكم من مرّة طلبت الاستماع إلى إيقاعات وأغان تونسية بعد كل مباراة انتصرت فيها، ودون تردد يتفاعل معها منشّط الملعب ويبث لها خصيصًا مقاطع من أغان تونسية تزداد بها نشوة ويزداد بها التونسيون سعادةً وفخرًا.
ولم تكتفِ بهذا، ففي مبادرة منها، قامت خلال شهر يوليو 2021 ببيع مضربيها في المزاد العلني لشراء معدات طبية ومساعدة المستشفيات في تونس جراء تداعيات جائحة «كوفيد-19»، كما أسهمت وتسهم في ترميم وإعادة تهيئة مدارس في بعض القرى والمحافظات التونسية.
نعم لو كانت السعادة موجودة في تونس، ولو كان لها وزيرا فلن يكون سوى أنس جابر.. هكذا هو لسان كل التونسيين خلال هذه الصائفة لقد أسعدتهم وآنستهم البطلة أنس، وجبرت خواطرهم المكسورة حين رفعت علم بلادهم عاليا في المحافل الدولية.
دمتِ فخرًا وأُنسًا وجبرًا لخواطر التونسيين يا أنس.
*نقلاً عن الأيام البحرينية



