
في بلد المتناقضات؛ موطن الإجرام والمافيا والمخدرات، أرض الجمال والطبيعة الساحرة الخلابة في كولومبيا، نشأ أندريس أسكوبار، يبحثُ عن السلام والخير والآمان، والمتعة. يبحث عن الحياة، ليجد كل هذا في كرة القدم، أو هكذا كان يظن، خلال رحتله القصيرة بين الأحياء.
رحلته في الحياة كانت قد بدأت في 13 مارس/آذار 1967، ذلك اليوم الذي استقبلته فيه عائلته في مدينة ميديلين الكولومبية بكل فرحٍ وامتنانٍ، بعد أن زادت أسرتهم فردًا، وأحاطوه وقتها بكل الأمنيات الطيبة في حياته، وعمره الذي تمنوا أن يكون طويلًا وسعيدًا.. تلك الأماني التي لم تحالفه، ولم تكن من نصيبه.
أسكوبار، وجد في كرة القدم، وهو في طفولته وشبابه، ملاذه الآمن، وراحته وسعادته، ومع الوقت ازداد تعلقه بها، حتى قرَّر أن يحترفها، وأن تكون هي مهنته حتى الممات، لم يذهب للكرة بحثًا عن المال، حيث كان ينتمي لعائلة ثرية، ولكن حبًا خالصًا فيها.
أحبَّ كثيرًا اللعب في خط الدفاع، وتألق فيه حتى صار مركزه الأساسي، في الأندية التي لعب لها، مثل ناسيونال ميدلين، بطل أمريكا الجنوبية السابق، وفريق يونج بويز السويسري، وعلى إثر شهرته في عالم الكرة أصبح من نجوم الإعلانات التليفزيونية.
وقتها أراد أن يكون لاعبًا بمنتخب بلاده للدفاع عن ألوانه، وكان له ما أراد، فكان ضمن اللاعبين المشاركين مع منتخب كولومبيا في مونديال 1994 بأمريكا، وكانت آمالهم كبيرة في البطولة، بعد الأداء الرائع الذي قدَّموه في التصفيات المؤهلة لكأس العالم، وتفوقهم الساحق على منتخبات كبيرة مثل الأرجنتين، وباراجواي.
ومع هذا التأهل، كثُرت المراهنات من قبل تجار المخدرات، والمافيا، في المكاتب المخصصة لذلك، التي تشتهر بها كولومبيا، ودفعوا أموالاً طائلة للمراهنة على فوز منتخبهم بمونديال أمريكا، ليذهب أسكوبار ورفاقه بآمال، وطموحات كبيرة، يرجون تحقيقها خلال البطولة.
لم يخطُر ببال أسكوبار وقت سفره للولايات المتحدة، أنَّ هذه ستكون آخر رحلاته مع منتخب بلاده، أو أنَّها ستكون آخر بطولة يشارك فيها، وأنَّه لن يلعب كرة القدم بعدها ثانية، ولن يُمارس لعبته المفضلة مجددًا.
ووقعت كولومبيا في مجموعة متوازنة مع أمريكا، ورومانيا، وسويسرا، ومثَّلت خسارتها في أولى مبارياتها من رومانيا (3-1) مفاجأة مدوية، حيث لم يكن متوقعًا لها تلك البداية السيئة.
وأصبح أسكوبار ورفاقه مطالبين بالتعويض أمام أمريكا صاحبة الأرض والجمهور، واقتناص الفوز، أو التعادل على أقل تقدير، للحفاظ على حظوظهم في التأهل إلى ثمن النهائي.
وخلال اللقاء، حافظوا على نظافة شباكهم حتى الدقيقة (34)، لكن مع الدقيقة التالية، لعب مهاجم أمريكا جون هاركس، كرة عرضية بيسراه داخل منطقة جزاء كولومبيا، حاول أسكوبار التعامل معها، وإبعادها عن مناطق الخطورة من أمام المرمى، إلا أنَّه فشل في ذلك فحوَّلها بيمناه داخل شباكه.
لم يستوعب أسكوبار ما فعله، وأنَّه سجَّل في مرماه، فسقط أرضًا حزينًا، متأثرًا من أجل منتخب بلاده، الذي قد يؤثر هذا الهدف على مشواره بالبطولة. لم يكن يدرك أنَّ عواقب هدفه ستكون وخيمة، ولن تنتهي بتوديعهم للبطولة فحسب.
انتهت المباراة يومها بهدفين لهدف لصالح أمريكا، قبل أن تفوز كولومبيا باللقاء الأخير على سويسرا بهدفين، لكنَّه فوز لن يشفع لها، فقد ودَّعت من الدور الأول، وعاد لاعبوها إلى بلادهم، خائبي الرجاء، دون تحقيق شيء.
جميعهم كانوا تُعساء؛ بسبب خروجهم المبكر من كأس العالم، لكن أسكوبار كان أكثرهم. الجماهير كانت حمَّلته مسؤولية كل شيء، وواجه ضغوطًا نفسية شديدة، بسبب هدف أحرزه، لم يكن يتمنَّاه، ولا يقصده.
لم يستطع أسكوبار، أن يصمُت أمام كل الانتقادات التي وُجِّهت إليه، فقرَّر الرد، وكتب مقالًا في إحدى الصحف الكولومبية، يعتذر من الجماهير التي زرعت فيهم أملًا في البطولة، ولم تحصد إلا الخيبة.
وقال "تقبلوا مني خالص الاحترام والتقدير، وأُدرك كم كانت لحظات صعبة على الجميع، لكن دعونا نلتقي بخير فالحياة لا تنتهي هنا. لا تقف الحياة عند نقطةٍ ما، ويجب أن تستمر مهما كانت الصعوبة التي نواجهها الآن".
وأضاف "علينا أن نعود ونقف من جديد. نمتلك الآن خيارين، إمَّا أن نجعل اليأس، والخيبة تتملكان منا، وتشل حركتنا، أو نسمح لأنفسنا بالنهوض من جديد والمحاولة، وزرع الآمال".
هذا ما كان يراه أسكوبار، أنَّ خسارة بطولة لا يعني النهاية، لكنَّ البعض كان له رأي آخر، الذين لم يغفروا له خطأه، وقرَّروا الانتقام منه.
فبعد عودته بنحو 10 أيام وتحديدًا في 2 يوليو/تموز 1994، وبينما كان بإحدى الحانات مع أصدقائه بكولومبيا، خرج عليه 3 من رجال العصابات، وأطلقوا عليه النار، وقتلوه بـ12 طلقة رصاص، وهو عدد المرات التي قال فيها المعلق (جول) بعد هدفه بالخطأ، وظلت دماؤه تنزف حتى فارق الحياة بعد 45 دقيقة .
ما حدث كان صادمًا، ليس للمجتمع الكولومبي فقط، لكن للعالم بأثره، بل وربما لقناعات سكوبار نفسه الذي كان يقول دائمًا إنَّ سبب حبه لكرة القدم، واحترافه لها دون غيرها مثل مصارعة الثيران التي تشتهر بها بلاده، هو أنه في كرة القدم لا دماء تسيل. لا يموت أحدٌ، فكرة القدم هي الحياة، فكيف له أن يمارس رياضة فيها الموت؟.
لكنها لم تكن كذلك يا أسكوبار، فلم تُنصفك الكرة، وها هي الدماء قد سالت فيها، ومُت أنت، وكلفك خطأ فيها حياتك، وأنت في الـ27 من عمرك، فقضت على آمالك وطموحاتك فيها، بطريقة هي الأسوأ في تاريخ اللعبة.
ومع رحيله، الكل غفر له ذنبًا اقترفه دون قصد منه، في مباراة كرة قدم، يمكن أن تشهد مثل هذه الأشياء كأمور طبيعية، لكن غفرانهم جاء بعد فوات الآوان، فجنازته حضرها نحو 120 ألف شخص، كل فرد فيهم ذهب ومعه صورة من ذكريات ومباريات إسكوبار.
وفي المدينة التي ينتمي إليها، قررت بلاده تخليد اسمه، وقامت البلدية بميديلين، بدعم من سكانها، بتصميم تمثال خاص بإسكوبار في يوليو/تموز 2002، كما كان الاتحاد الكولومبي، قد منع منذ وفاته ولفترة طويلة ارتداء القميص رقم 2، الخاص به تخليدًا له.



