
تتحفنا السينما العالمية بين حين وآخر، بأفلام تسجيلية، توثق للأحداث برواية من شاهدها، وتميط اللثام عن حقائق غابت عن الأذهان، وتنفذ الغبار عن وثائق ومشاهد، أغلقت عليها الأدراج منذ سنوات طويلة.
بيليه..كان الإنتاج السينمائي الأخير لواحد من أهم الأفلام التسجيلية التي يمكنك أن تجلس دون حراك من لحظة دخول (الملك) مستخدما جهاز المشي، ومحاولته الجلوس على الكرسي دون مساعدة من أحد، ومن ثم دفع الجهاز بعيدا، وكأنه تحرر من قيوده التي يعيش فيها حاليا، بعدما اعتاد التحليق في ملاعب الكرة بعد كل هدف يسجله، ويرفع يده في الصورة الأسطورية الخالدة له في أذهان كل من عاش عصره.
ورغم أنني ولدت قرابة 30 عاما بعد تاريخ إبصار هذا العبقري النور، ولم أتجاوز السنوات الـ 10 من العمر حين خاض أخر بطولة كأس عالم في تاريخه، إلا أنني أدركت بعضا من سحره في الملاعب، وسمعت ممن يكبروني بالسن الكثير عن هذا الساحر في عالم المستديرة.
في الفيلم، هناك العديد من الوقفات التي لا تتسع مقالة واحدة لاستعراضها، ولكن يمكن تلخيص الأمر بأن هذا الفتى الذي مسح الأحذية في طفولته من أجل مساعدة والده في تغطية مصاريف الأسرة، تعلق قلبه في حب البرازيل، ووضع بلاده كأولوية في حياته، وعاش هاجس العشق حتى يومنا هذا، ودليل ذلك تلك الدموع التي كان يذرفها وهو يروي جانبا من فصول حكايته، وفي ذلك درس لكل نجم يعيش النشوة حاليا، أن الوطن هو أكبر الطموح، وأعلى الأولويات.
عشق الوطن، هو الذي دفع بيليه للتعامل مع جميع الأطياف رغم تعقيدات الموقف السياسي بحدوث الإنقلاب العسكري والإطاحة بالحكومة المنتخبة ديمقراطيا، ورفض العمل بالسياسة تماما، كما لم يعرف أحدا انتماءه السياسي في وقت كان على الجميع إظهار موقفهم بدعم النظام القائم أو معارضته، وهو أشار لهذا الأمر بقوله: لا تهمني المواقف..تهمني البرازيل.
يتذكر معنا بيليه بداياته، وكيف اصطحبه والده إلى نادي سانتوس الذي لم يكن منافسا ولا مشهورا، ومن هناك أعجب به المدرب وتنبأ بمستقبله الزاهر، وسرعان من أخذ مكانه في الملعب، ليجد نفسه في منتخب البرازيل وهو لم يكمل السابعة عشر من العمر، وهو ما اعتبره مسؤولية كبيرة، خاصة لمحو
مرارة الهزيمة أمام الأوروجواي على ملعب الماراكانا، وخسارة لقب 1950 أمام أعين ما 200 ألف برازيلي، ويقول بيليه: أوصلتنا تلك الخسارة لحد الإنكسار، والشعور بالنقص أمام الأمم الأخرى، والأمر احتاج الكثير من الوقت للنهوض من جديد بالطموحات والآمال المشرقة.
في مونديال السويد 1958 كانت الانطلاقة لذلك الشاب، ونجح في استعادة كأس جول ريميه بعد أن قاد السحرة للفوز في النهائي على أصحاب الأرض بخماسية، لتتحول الحالة المزاجية في البرازيل، ويتخلص البرازيليون من عقدة النقص التي لازمتهم، ويتسبب هذا الكأس بنهوض الأمة من جديد، لدرجة تضاعف الإنتاج على كافة المستويات، وارتفع متوسط دخل الفرد، وسادت حالة مزاجية رائعة لدى أطياف الشعب.
بيليه يواصل حكايته في الفليم، مستعينا برفقائه الذين واكبوه في الملاعب، حيث يمزج المخرج الحاضر بأشكال من عاصروا تجربة الملك الحالية بعد أن فعل الزمن بها فعلته، وبلقطات لهم في الملاعب وحواراتهم وتصريحاتهم التلفزيونية، وبشكل يجعلك تتعمق في هذه التجارب التي تحيط بالنجم، ويتحدث هنا بمرارة عن تجربة مونديال إنجلترا 1966 والخروج المذل من الدور الأول، والذي جاء بسبب الإصابات التي تعرض لها هو و7 من نجوم السامبا بسبب عنف المدافعين في التعامل معه والذي وصل لدرجة الوحشية، وهو ما دفعه لاتخاذ قرار الاعتزال الدولي في سن الـ 26، وبالتالي الغياب عن مونديال المكسيك، لكن الشعب البرازيلي بأسره رفض هذا القرار، ووصل الأمر إلى رئيس البلاد وحكومته.
يتحدث بيليه هنا عن تلك المسؤولية التي حمّلها له الشعب بالعودة عن قراره، والذي كان في النهاية تلبية هذه المطالب انطلاقا من عشقه للبرازيل لا غير، ويستعيد ذكريات تلك العودة بألم، بعدما فوجئ بوجود المدرب جاو سالدانها، وهو مدرب حسب وصف بيليه جاهل بكرة القدم، وكثير الكلام، وكل ما يريده هو إثبات قوة شخصيته، وفي سبيل ذلك سعى هذا المدرب إلى تحجيم الملك بإطلاق سلسلة من التصريحات حوله بأنه مجرد لاعب في المنتخب ولا يستحق مكانة خاصة، ثم فجر قنبلة بأن بيليه لا يستطيع الرؤية بشكل جيد وبأنه لاعب أعمى، لكن لم يتسمر الأمر طويلا، وقبل مونديال المكسيك بشهرين، جاء القرار بتنحية سالدانها، واستبداله بزاجالو زميل بيليه السابق في الملعب.
يتذكر بيليه بالكثير من الدموع، مباراة قبل نهائي مونديال المكسيك والتي كانت ثأرية مع الأوروجواي، وكيف تخلف منتخب البرازيل بهدف، ليعيد ذكرى الخسارة الأليمة لنهائي 1950، لكنه أعاد الحياة لفريقه، وقاده للثأر بثلاثية، بفضل تمريراته الحاسمة، وحينها وقف بكل شموخ، وصرخ في غرفة اللاعبين: بيليه لم يمت..بيليه لم يمت، ومن ثم أجهز الفريق على إيطاليا - أعتى قوى الأرض كرويا - في ذلك الوقت، ورفع كأس العالم للمرة الثالثة، والذي احتفظت بها البرازيل للأبد.
الفيلم وجه رسالة واضحة، بأن الملك بيليه لم يمت، حتى ولو غادر حياتنا، فهو ليس مجرد لاعب كرة، بل أنموذج لفخر أمة بأسرها، تغيرت نظرتها للحياة، وتطورت تطلعاتها وأهدافها، بفضل ذلك الشاب الأسمر، الذي فعل ما لم يفعله السياسيون والجيوش..ولن يفعلوا!
قد يعجبك أيضاً



