الوقت الاصلي يقولون إن التأريخ يكرر نفسه ، ويرد فريق
الوقت الاصلي
يقولون إن التأريخ يكرر نفسه ، ويرد فريق آخر بأن الأحداث الكبرى لن تمر على البشرية إلا مرة واحدة ، لكنها تجدد في النفس والعقل والذاكرة أو حتى في بطون الكتب ما سبق أن إختزنته من حوادث وأيام ومفارقات .. وقد تحفزت ذاكرتي حدّ الإتقاد وأنا أشاهد إبن العراق المتألق (كرار) وهو يضع كرة قاتلة في الشباك التايلاندية وفي فاصلة زمنية يصعب معها التعويض .. فإنتقلت الصورة من الملعب التايلاندي حيث تكور لاعبونا مع كادرهم التدريبي والإداري في فرحة تأخرت كثيراً ، إلى صورة علقت في المخيلة وهي تعود إلى نهاية العقد الثمانيني من القرن المنصرم .. الآن يجمعنا في ملعب نادي النجف لقاء حميم ب (جاسم) وهو واحد من محبي الكرة النجفية والعراقية ، وقد صحبه الزميل الإعلامي إياد الجبوري وهو يحمل صورة صغيرة قال لي إنها تعود إلى الطفل كرار نجل هذا الرجل المولع بالكرة والذي بادرني على الفور بالقول إن لدى الطفل الصغير كرار مهارات تنبئ بمستقبل واعد وإن الزمن كفيل بأن يحقق تلك النبوءة أو يركنها جانباً ضمن ما هو مهمل من القراءات المبكرة !
ودخل الزميل الجبوري في الرهان ذاته وقال إن كرار الذي يظهر في الصورة وهو يتعامل مع الكرة ببراءة عالية كما لو أنه يريد أن يصبح مارادونا زمانه أو لعله كان يفكر في خلافة حيدر نجم أو محمد جواد أو علي هاشم أو حسن جواد أو عبد الغني شهد أو حسن جلاب !
وتوثيقاً لهذا الرهان ، طلب مني الإثنان إياد وجاسم نشر الصورة في مجلة (الرياضي العربي) الكويتية التي كنت مراسلها في العراق وفي باب (الرياضي الصغير) على ما أذكر .. وأجبرتني كياسة الطلب ودماثة الطفل الصغير على أن أفعل ، فوضعت الصورة في المجلة التي أحتفظ بها حتى الآن ، ولا أدري إن كان كرار أو أبوه يحتفظ بذلك العدد من المجلة !
وحين ظهرت صورة كرار في مجلة عريضة السمعة والمكانة ، إتصل بي أبوه معبراً عن الشكر العميق ، ومن يومها لم يجمعني به لقاء مرتب أو صدفة عابرة ، وربما تكون تلك اللمحة الزمنية قد توارت خلف ستار النسيان بين ثنايا ما يتراكم في الذاكرة ولا يعنّ عليها .. لكنني ومع الهدف الرائع الذي إهتزت له بانكوك يوم الأربعاء الماضي تمثَّلت صورة ذلك الطفل النحيف بشعره المنسدل على كتفيه ربما لبيان دلال ذويه له ، وعدت إلى ذلك الرهان الذي كسبه الصديقان جاسم وإياد ، ولم تكن لدي في وقتها مبررات الدخول في ذلك الرهان نظراً لجهلي المطبق بما يختزنه الطفل الصغير لغد جاء بالفعل ، وتفتحت فيه موهبته ، ليكون بطلاً من أبطال الرياضة في بلدي !
كم أنا فرح بتلك الصورة التي حملت إستقراءً عالي الدقة للمستقبل .. وكم هو سعيد هذا الرجل النجفي الذي لم ألتقه منذ ذلك اليوم ، بإبنه وهو يحرز نصراً لبلد يلد النجوم كلما إمتدت إليه سكاكين الغدر والظلام كي تقطع رحمه الخصب .. كم هو جميل أن يحاولوا إغتيال العراق في كل مرة ، فينهض ليرد على قاتليه بالتعبير عن كل مظاهر الحياة والنماء !
نعم .. هذا هو العراق الذي نزداد في حضرته حباً له وهياماً به كلما أوغلوا في التربص به للإيقاع بكل زاوية نابضة للحياة فيه ..
العراق الذي يلد كل يوم كرّاراً جديدا يراهن أبواه على المستقبل وعلى أنه سيكون بعد عشرين سنة ، أكثر أو أقل ، بطلاً يرد بإباء على كل محاولة دنيئة لسفك الدم العراقي .. فثمة كرار لم يولد بعد من ظهر عراقي أصيل ومن بطن طاهرة ، سيولد في النجف ، وفي بغداد ، وفي الأنبار ، وفي السليمانية ، وفي ديالى ، وفي العمارة ، وفي كل مدينة تظهر على الخريطة وكأنها (نيشان الإبداع) الذي يزين صدر العراق ..
عراق جمولي وعمو بابا وعبد كاظم ورعد حمودي وهادي احمد وأحمد راضي وعماد محمد ونشأت أكرم ويونس محمود وكرار جاسم ، باق ٍ .. وإذا كان جسر هنا هوى أو طريق هناك تقطع ، فإن سر البقاء الكبير يكمن في تلك الأرحام العصية على الموت ، لأنها تأبى إلا أن تحتفظ بدورة الولادة عبر كل الزمن ، كي يبقى العراق عراقاً بعد كل خطب داهم ، وبعد كل ملمة ضروس .